سورة يس - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يس)


        


{يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)}
قوله تعالى: {يس} في يس أوجه من القراءات: قرأ أهل المدينة والكسائي {يس والقرآن الحكيم} بإدغام النون في الواو. وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة {يس} بإظهار النون. وقرأ عيسى بن عمر {يسن} بنصب النون. وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم {يسن} بالكسر. وقرأ هارون الأعور ومحمد بن السميقع {يسن} بضم النون، فهذه خمس قراءات. القراءة الأولى بالإدغام على ما يجب في العربية، لأن النون تدغم في الواو. ومن بين قال سبيل حروف الهجاء أن يوقف عليها، وإنما يكون الإدغام في الإدراج. وذكر سيبويه النصب وجعله من جهتين: إحداهما أن يكون مفعولا ولا يصرفه، لأنه عنده اسم أعجمي بمنزلة هابيل، والتقدير أذكر يسئن. وجعله سيبويه اسما للسورة. وقوله الآخر أن يكون مبنيا على الفتح مثل كيف وأين. وأما الكسر فزعم الفراء أنه مشبه بقول العرب جير لا أفعل، فعلى هذا يكون {يسن} قسما. وقاله ابن عباس.
وقيل: مشبه بأمس وحذام وهؤلاء ورقاش. وأما الضم فمشبه بمنذ وحيث وقط، وبالمنادي المفرد إذا قلت يا رجل، لمن يقف عليه. قال ابن السميقع وهارون: وقد جاء في تفسيرها: يا رجل فالأولى بها الضم. قال ابن الأنباري {يس} وقف حسن لمن قال هو افتتاح للسورة. ومن قال: معنى {يس} يا رجل لم يقف عليه. وروي عن ابن عباس مسعود وغيرهما أن معناه يا إنسان، وقالوا في قوله تعالى: {سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ} [الصافات: 130] أي على آل محمد.
وقال سعيد بن جبير: هو اسم من أسماء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودليله {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}. قال السيد الحميري:
يا نفس لا تمحضي بالنصح جاهدة *** وعلى المودة إلا آل ياسين
وقال أبو بكر الوراق: معناه يا سيد البشر.
وقيل: إنه اسم من أسماء الله، قال مالك. روى عنه أشهب قال: سألته هل ينبغي لأحد أن يتسمى بياسين؟ قال: ما أراه ينبغي لقول الله: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} يقول هذا اسمي يس. قال ابن العربي هذا كلام بديع، وذلك أن العبد يجوز له أن يتسمى باسم الرب إذا كان فيه معنى منه، كقوله: عالم وقادر ومريد ومتكلم. وإنما منع مالك من بالتسمية {يسئن}، لأنه اسم من أسماء الله لا يدرى معناه، فربما كان معناه ينفرد به الرب فلا يجوز أن يقدم عليه العبد. فإن قيل فقد قال الله تعالى: {سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ} [الصافات: 130] قلنا: ذلك مكتوب بهجاء فتجوز التسمية به، وهذا الذي ليس بمتهجى هو الذي تكلم مالك عليه، لما فيه من الإشكال، والله أعلم.
وقال بعض العلماء: افتتح الله هذه السورة بالياء والسين وفيهما مجمع الخير: ودل المفتتح على أنه قلب، والقلب أمير على الجسد، وكذلك {يس} أمير على سائر السور، مشتمل على جميع القرآن. ثم اختلفوا فيه أيضا، فقال سعيد بن جبير وعكرمة: هو بلغة الحبشة.
وقال الشعبي: هو بلغة طي. الحسن: بلغة كلب. الكلبي: هو بالسريانية فتكلمت به العرب فصار من لغتهم. وقد مضى هذا المعنى في طه وفي مقدمة الكتاب مستوفى. وقد سرد القاضي عياض أقوال المفسرين في معنى {يس} فحكى أبو محمد مكي أنه روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لي عند ربي عشرة أسماء» ذكر أن منها طه ويس اسمان له.
قلت: وذكر الماوردي عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن الله تعالى أسماني في القرآن سبعة أسماء محمد وأحمد وطه ويس والمزمل والمدثر وعبد الله» قاله القاضي.
وحكى أبو عبد الرحمن السلمي عن جعفر الصادق أنه أراد يا سيد، مخاطبة لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن ابن عباس: {يس} يا إنسان أراد محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال: هو قسم وهو من أسماء الله سبحانه.
وقال الزجاج: قيل معناه يا محمد وقيل يا رجل وقيل يا إنسان. وعن ابن الحنفية: {يس} يا محمد. وعن كعب: {يس} قسم أقسم الله به قبل أن يخلق السماء والأرض بألفي عام قال يا محمد: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ثم قال: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ}. فإن قدر أنه من أسمائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصح فيه أنه قسم كان فيه من التعظيم ما تقدم، مو كد فيه القسم عطف القسم الآخر عليه. وإن كان بمعنى النداء فقد جاء قسم آخر بعده لتحقيق رسالته والشهادة بهدايته. أقسم الله تعالى باسمه وكتابه أنه لمن المرسلين بوحيه إلى عباده، وعلى صراط مستقيم من إيمانه، أي طريق لا اعوجاج فيه ولا عدول عن الحق. قال النقاش: لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا له، وفية من تعظيمه وتمجيده على تأويل من قال إنه يا سيد ما فيه، وقد قال عليه السلام: «أنا سيد ولد آدم» انتهى كلامه.
وحكى القشيري قال ابن عباس: قالت كفار قريش لست مرسلا وما أرسلك الله إلينا، فأقسم الله بالقرآن المحكم أن محمدا من المرسلين. {والْحَكِيمِ} المحكم حتى لا يتعرض لبطلان وتناقض، كما قال: {أُحْكِمَتْ آياتُهُ} وكذلك أحكم في نظمه ومعانيه فلا يلحقه خلل. وقد يكون {الْحَكِيمِ} في حق الله بمعنى المحكم بكسر الكاف كا لأليم بمعنى المؤلم {عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي دين مستقيم وهو الإسلام.
وقال الزجاج: على طريق الأنبياء الذين تقدموك، وقال: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} خبر إن، و{عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} خبر ثان، أي إنك لمن المرسلين، وإنك على صراط مستقيم.
وقيل: المعنى لمن المرسلين على استقامة، فيكون قوله: {عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} من صلة الْمُرْسَلِينَ، أي إنك لمن المرسلين الذين أرسلوا على طريقة مستقيمة، كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صراط الله} أي الصراط الذي أمر الله به. قوله تعالى: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} قرأ ابن عامر وحفص والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف: {تنزيل} بنصب اللام على المصدر، أي نزل الله ذلك تنزيلا. وأضاف المصدر فصار معرفة كقوله: {فَضَرْبَ الرِّقابِ} [محمد: 4] أي فضربا للرقاب. الباقون {تَنْزِيلَ} بالرفع على خبر ابتداء محذوف أي هو تنزيل، أو الذي أنزل إليك تنزيل العزيز الرحيم. هذا وقرئ: {تنزيل} بالجر على البدل من {الْقُرْآنِ} والتنزيل يرجع إلى الْقُرْآنِ.
وقيل: إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي إنك لمن المرسلين، وإنك {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}. فالتنزيل على هذا بمعنى الإرسال، قال الله تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا يَتْلُوا} [الطلاق: 11- 10] ويقال: أرسل الله المطر وأنزله بمعنى. ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمة الله أنزلها من السماء. ومن نصب قال: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إرسالا من العزيز الرحيم. و{الْعَزِيزِ} المنتقم ممن خالفه {الرَّحِيمِ} بأهل طاعته.


{لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)}
قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ} {قَوْماً} لا موضع لها من الإعراب عند أكثر أهل التفسير منهم قتادة، لأنها نفي والمعنى: لتنذر قوما ما أتى آباءهم قبلك نذير.
وقيل: هي بمعنى الذي فالمعنى: لتنذرهم مثل ما أنذر آباؤهم، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة أيضا.
وقيل: إن {قَوْماً} والفعل مصدر، أي لتنذر قوما إنذار آبائهم. ثم يجوز أن تكون العرب قد بلغتهم بالتواتر أخبار الأنبياء، فالمعنى لم ينذروا برسول من أنفسهم. ويجوز أن يكون بلغهم الخبر ولكن غفلوا وأعرضوا ونسوا. ويجوز أن يكون هذا خطابا لقوم لم يبلغهم خبر نبي، وقد قال الله: {وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ: 44] وقال: {لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة: 3] أي لم يأتهم نبي. وعلى قول من قال بلغهم خبر الأنبياء، فالمعنى فهم معرضون ألان متغافلون عن ذلك ويقال لامرض عن الشيء انه غافل عنه.
وقيل: {فَهُمْ غافِلُونَ} عن عقاب الله. قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ} أي وجب العذاب على أكثرهم {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} بإنذارك. وهذا فيمن سبق في علم الله أنه يموت على كفره. ثم بين سبب تركهم الإيمان فقال: {إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا}. قيل: نزلت في أبي جهل ابن هشام وصاحبيه المخزوميين، وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا يصلي ليرضخن رأسه بحجر، فلما رآه ذهب فرفع حجرا ليرميه، فلما أومأ إليه رجعت يده إلى عنقه، والتصق الحجر بيده، قاله ابن عباس وعكرمة وغيرهما، فهو على هذا تمثيل أي هو بمنزلة من غلت يده إلى عنقه، فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم بما رأى، فقال الرجل الثاني وهو الوليد بن المغيرة: أنا أرضخ رأسه. فأتاه وهو يصلي على حالته ليرميه بالحجر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقال: والله ما رأيته ولقد سمعت صوته. فقال الثالث: والله لأشدخن أنا رأسه. ثم أخذ الحجر وانطلق فرجع القهقرى ينكص على عقبيه حتى خر على قفاه مغشيا عليه. فقيل له: ما شأنك؟ قال شأني عظيم رأيت الرجل فلما دنوت منه، وإذا فحل يخطر بذنبه ما رأيت فحلا قط أعظم منه حال بيني وبينه، فو اللات والعزى لو دنوت منه لأكلني. فأنزل الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ}. وقرأ ابن عباس: {إنا جعلنا في أيمانهم}.
وقال الزجاج: وقرئ: {إنا جعلنا في أيديهم}. قال النحاس: وهذه القراءة تفسير ولا يقرأ بما خالف المصحف.
وفي الكلام حذف على قراءة الجماعة، التقدير: إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالا فهي إلى الأذقان، فهي كناية عن الأيدي لا عن الأعناق، والعرب تحذف مثل هذا. ونظيره: {سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] وتقديره وسرابيل تقيكم البرد فحذف، لأن ما وقى من الحر وقى من البرد، لأن الغل إذا كان في العنق فلا بد أن يكون في اليد، ولا سيما وقد قال الله عز وجل: {فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ} فقد علم أنه يراد به الأيدي. {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق، لأن من علت يده إلى ذقنه ارتفع رأسه. روى عبد الله بن يحيى: أن علي بن أبي طالب عليه السلام أراهم الإقماح، فجعل يديه تحت لحيته وألصقهما ورفع رأسه. قال النحاس، وهذا أجل ما روي فيه وهو مأخوذ مما حكاه الأصمعي. قال: يقال أقمحت الدابة إذا جذبت لجامها لترفع رأسها. قال النحاس: والقاف مبدلة من الكاف لقربها منها. كما يقال: قهرته وكهرته. قال الأصمعي: يقال أكمحت الدابة إذا جذبت عنانها حتى ينتصب رأسها. ومنه قول الشاعر:
والرأس مكمح ***
ويقال: أكمحتها وأكفحتها وكبحتها، هذه وحدها بلا ألف عن الأصمعي. وقمح البعير قموحا إذا رفع رأسه عند الحوض وامتنع من الشرب، فهو بعير قامح وقمح، يقال: شرب فتقمح وانقمح بمعنى إذا رفع رأسه وترك الشرب ريا. وقد قامحت إبلك: إذا وردت ولم تشرب، ورفعت رأسها من داء يكون بها أو برد. وهي إبل مقامحة، وبعير مقامح، وناقة مقامح أيضا، والجمع قماح على غير قياس، قال بشر يصف سفينة:
ونحن على جوانبها قعود *** ونغض الطرف كالإبل القماح
والإقماح: رفع الرأس وغض البصر، يقال: أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعا من ضيقه. وشهرا قماح: أشد ما يكون من البرد، وهما الكانونان سميا بذلك، لأن الإبل إذا وردت آذاها برد الماء فقامحت رءوسها، ومنه قمحت السويق.
وقيل: هو مثل ضربه الله تعالى لهم في امتناعكم من الهدى كامتناع المغلول، قال يحيى بن سلام وأبو عبيدة. وكما يقال: فلان حمار، أي لا يبصر الهدى. وكما قال:
لهم عن الرشد أغلال وأقياد ***
وفي الخبر: أن أبا ذؤيب كان يهوى امرأة في الجاهلية، فلما أسلم راودته فأبى وأنشأ يقول:
فليس كعهد الدار يا أم مالك *** وولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل *** وسوى العدل شيئا فاستراح العواذل
أراد منعنا بموانع الإسلام عن تعاطي الزنى والفسق.
وقال الفراء أيضا: هذا ضرب مثل، أي حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله، وهو كقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] وقال الضحاك.
وقيل: إن هؤلاء صاروا في الاستكبار عن الحق كمن جعل في يده غل فجمعت إلى عنقه، فبقي رافعا رأسه لا يخفضه، وغاضا بصره لا يفتحه. والمتكبر يوصف بانتصاب العنق.
وقال الأزهري: إن أيديهم لما علت عند أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورءوسهم صعدا كالإبل ترفع رءوسها. وهذا المنع بخلق الكفر في قلوب الكفار، وعند قوم بسلبهم التوفيق عقوبة لهم على كفرهم.
وقيل: الآية إشارة إلى ما يفعل بأقوام غدا في النار من وضع الأغلال في أعناقهم والسلاسل، كما قال تعالى: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ} [غافر: 71] وأخبر عنه بلفظ الماضي. {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} تقدم تفسيره.
وقال مجاهد: {مُقْمَحُونَ} مغلون عن كل خير.


{وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)}
قوله تعالى: {وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} قال مقاتل: لما عاد أبو جهل إلى أصحابه، ولم يصل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسقط الحجر من يده، أخذ الحجر رجل آخر من بني مخزوم وقال: أقتله بهذا الحجر. فلما دنا من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طمس الله على بصره فلم ير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرجع إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه، فهذا معنى الآية.
وقال محمد بن إسحاق في روايته: جلس عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل وأمية بن خلف، يرصدون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليبلغوا من أذاه، فخرج عليهم عليه السلام وهو يقرأ {يس} وفي يده تراب فرماهم به وقرأ: {وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} فأطرقوا حتى مر عليهم عليه السلام. وقد مضى هذا في سورة سبحان ومضى في الكهف الكلام في {سدا} بضم السين وفتحها وهما لغتان. {فَأَغْشَيْناهُمْ} أي غطينا أبصارهم، وقد مضى في أول البقرة. وقرأ ابن عباس وعكرمة ويحيى بن يعمر {فأعشيناهم} بالعين غير معجمة من العشاء في العين وهو ضعف بصرها حتى لا تبصر بالليل قال:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ***
وقال تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن} [الزخرف: 36] الآية. والمعنى متقارب، والمعنى أعميناهم، كما قال:
ومن الحوادث لا أبا لك أنني *** وضربت علي الأرض بالأسداد
لا أهتدي فيها لموضع تلعة *** وبين العذب وبين أرض مراد
{فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} أي الهدى، قاله قتادة.
وقيل: محمدا حين ائتمروا على قتله، قاله السدي.
وقال الضحاك: {وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} أي الدنيا {وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} أي الآخرة أي عموا عن البعث وعموا عن قبول الشرائع في الدنيا، قال الله تعالى: {وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ} أي زينوا لهم الدنيا ودعوهم الى التكذيب بالأخرة.
وقيل: على هذا {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} أي غرورا بالدنيا {وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} أي تكذيبا بالأخرة وقيل: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} الآخرة {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} الدنيا. {وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} تقدم في البقرة والآية رد على القدرية وغيرهم.
وعن ابن شهاب: أن عمر بن عبد العزيز أحضر غيلان القدري فقال: يا غيلان بلغني أنك تتكلم بالقدر، فقال: يكذبون على يا أمير المؤمنين. ثم قال: يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 3- 2] قال: اقرأ يا غيلان فقرأ حتى انتهى إلى قوله: {فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الإنسان: 29] فقال اقرأ فقال: {وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] فقال: والله يا أمير المؤمنين إن شعرت أن هذا في كتاب الله قط. فقال له: يا غيلان اقرأ أول سورة يس فقرأ حتى بلغ {وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} فقال غيلان: والله يا أمير المؤمنين كأني لم أقرأها قط قبل اليوم، اشهد يا أمير المؤمنين أني تائب. قال عمر: اللهم إن كان صادقا فتب عليه وثبته، وإن كان كاذبا فسلط عليه من لا يرحمه واجعله آية للمؤمنين، فأخذه هشام فقطع يديه ورجليه وصلبه.
وقال ابن عون: فأنا رأيته مصلوبا على باب دمشق. فقلنا: ما شأنك يا غيلان؟ فقال: أصابتني دعوة الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز. قوله تعالى: {إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} يعني القرآن وعمل به. {وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ} أي ما غاب من عذابه وناره، قاله قتادة.
وقيل: أي يخشاه في مغيبه عن أبصار الناس وانفراده بنفسه. {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} أي لذنبه {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} أي الجنة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8